............
الجزائريون بعد التقاعد.. بين نعمة الراحة وهاجس الاكتئاب
بعضهم يستمتع بمرحلة جديدة وآخرون يعانون في صمت
المصدر : الشروق اليومي
تاريخ المقال : 13-03-2022
.............
.............
ينظر الجزائريون إلى مرحلة ما بعد التقاعد من زاويا مختلفة، بعضها تبعث على الارتياح في إطار كسب الراحة والبحث عن آفاق جديدة تعود عليهم بالفائدة نفسيا، وبعضها تشكل هاجسا لدى المقبلين على هذه المرحلة، وكأن التقاعد عندهم أشبه بغلق كل الأبواب، ما يجعلهم أسرى القلق والفراغ الذي يخلف الكثير من الإحباط ومظاهر الاكتئاب.يرى البروفيسور مختار بروال، أستاذ في قسم علم النفس وعلوم التربية بجامعة باتنة، بأنه من خلال تعامله مع فئة المتقاعدين، وقف على ثلاث فئات، الأولى غير مبالية، تعتقد، حسب قوله، أن دورها انتهى وجل وقتها تقضيه بين المقاهي ومجالس اللعب (بالخورقبة مثلا)، والفئة الثانية استقالت من كل الأدوار الأخرى باستثناء اهتمامها بشؤون العائلة والأحفاد، أمّا الفئة الأخيرة فقد وهبت كل وقتها للأعمال الخيرية والجمعوية والسعي في قضاء حاجات الناس واستغلال الوقت في نفع أنفسهم وأسرهم، والحفاظ على صلواتهم ودينهم. وهؤلاء تجدهم في قمّة النشاط والعطاء.وفي السياق ذاته، يقول الدكتور عمار شوشان، بأن مرحلة التكيف مع التقاعد تختلف من شخص إلى آخر، مستدلا بتجربة أشخاص تقاعدوا في سنّ مبكرة، لكنهم سرعان ما ينخرطون من جديد في نشاطات متنوعة، فيما يطرح الاكتئاب وبعض المشكلات النفسية على الذين قد لا يجدون اهتماما من مقربيهم، سواء الأبناء أم الأصدقاء مثلا، خاصة الذين يعانون من الفراغ الروحي ببعدهم عن الذكر والصلاة (ألا بذكر الله تطمئن القلوب).التحضير المسبق يجنّب المتقاعدين الوقوع في الفراغيؤكد الأستاذ ميلود سويهر، لـ”الشروق”، أنّ التقاعد يحتاج إلى ترتيب وتحضير مسبق. وكلّ من لم يفعل ذلك يجد نفسه في الفراغ القاتل الذي وصفه بالعدو اللدود للإنسان، وقال في هذا الجانب: “أعرف كثيرا من الأصدقاء والزملاء أصيبوا بالاكتئاب، وهرموا قبل الوقت، بسبب الفراغ. فتجدهم يجتمعون يوميا في نفس المكان، يخوضون في أعراض الناس ويشتغلون في النميمة والغيبة ويراقبون الصاعد والنازل”. أمّا الذين حضّروا له، حسب قوله، فيعتبرونه تفرغا لنشاطات مختلفة، كالكتابة والتأليف والتجارة والتطوع في الجمعيات الخيرية والعبادة طبعا، كقراءة القرآن والمداومة على الصلاة، فتجدهم يستفيدون دنيويا وأخرويا ويفيدون مجتمعهم.وفي هذا المجال، يقول الأستاذ الهادي زغينة: “أنا أنظر إلى التقاعد بنظرة إيجابية، حققت فيه هوايتي في الكتابة، وأنجزت عدة إصدارات وغيرت النشاط من موظف إلى ناشر، أتنقل بين مختلف ولايات الوطن لنشر العلم والسياحة، تعرفت على الكثير من ولايات الوطن من خلال هذا النشاط في الشمال والجنوب والشرق والغرب. التقاعد بالنسبة لي نعمة والحمد لله”.بين متعة التقاعد وتقاعد المتاعب..
يخلف التقاعد عينات وتجارب متباينة، منها الناجحة التي تصف التقاعد بالممتع، فيما يقع آخرون أسرى الفراغ القاتل بسبب افتقادهم بدائل ناجعة منذ اعتزال المهنة، فيحسون بأنهم عبء ثقيل في المنزل وخارجه، فيرتادون المقاهي ومجالس لعب خربقة وغيرها، فيقعون فريسة لنزيف الوقت على حساب الكثير من المكاسب التي يخفقون في الاستفادة منها.
وعلى النقيض من هذه الحالات السلبية، وقفنا على عدة نماذج إيجابية لأشخاص فضّلوا التقاعد لخوض تجارب جديدة تمكنهم من تحقيق طموحاتهم، على غرار البروفيسور العربي فرحاتي، الذي تحصل على رخصة التقاعد من الجامعة مطلع عام 2019 وهو في مطلع العقد السادس، فأراد أن يكون تقاعده ميلادا جديدا، فقرر أن يحول بيته إلى جامعة ومخبر، يعيش فيه “الفكرة” متحررا من عالم المأسسة البيروقراطية والروتين القاتل، وقال في هذا الجانب: “لم أعد أشعر بأن الوقت ضاع مني، بل أحسست بأن الزمن تناقص وقصر ولم يعد كافيا”.
وختم بالقول: “تمكنت من إنجاز عدة مقالات ومشاركات في الملتقيات وتأليف عدة كتب في الاختصاص.. هكذا أقضي أوقاتي اليومية، مستبعدا كل عوامل الاكتئاب أو الملل أو القلق”.مختصون ينصحون بالتقاعد التدريجي لتجنب الصدمات
يقول الطبيب المثقف محمد الطاهر عيساني بأنّ الإحالة على التقاعد تعد ظاهرة طبيعية لدى الأفراد، لكنها في المقابل تمثل هاجسا نفسيا ورهابا كبيرا وحالة خواء وفراغ قاتلة قد يسارع بتكسير البنية النفسية للأفراد، في ظل غياب تأطير اجتماعي من المؤسسات المختصة والمجتمع المدني، ناهيك عن الغياب التام للرعاية النفسية في هذه السن، مع وجود شبكات تواصل لا تتجاوز ملامح الشكوى والإفضاءات والتعبير عن الوحدة والقهر… ويضيف عيساني: “الإحالة على التقاعد تتباين وطأتها من قطاع إلى قطاع، ومنها الإحالة المبكرة لقطاع الطيران مثلا قد يكون منفذا لاستمرار النشاط المهني في فتح مشاريع أخرى، ثم تميز قطاع البحارة والعاملين في النقل البحري يخلق لديهم نوعا من الغربة وحالات الانطواء، ما يصعب عليهم في نهاية مشوارهم المهني الاندماج في المجتمع…”، مؤكدا أنه حتى التنظيم لا يفتح مجالا للإحالة للتقاعد التدريجي لتفادي مثل هذه الصدمات، ليبقى، حسب قوله، الهاجس المعيشي والمالي خطرا خانقا لهذه الشريحة المعرضة للفاقة أمام غياب كلي للتحضير المالي لهذه المرحلة، معتبرا أنّ التخطيط والدراسات المستقبلية من الناحية الديمغرافية تعد الوسيلة الوحيدة لرصد وتحديد الاحتياجات الحقيقية لهذه الشريحة، من طب الشيخوخة إلى مراكز الحماية الاجتماعية ومراكز التأهيل إلى محطات الاستجمام والراحة وتنظيم الرحلات ثم إدراج هذه الشريحة في منظور المشاريع الخاصة بالتهيئة للتجمعات السكنية.
ويؤكد الدكتور إبراهيم بوزيد، من قسم علم الاجتماع بجامعة أم البواقي، أن المتقاعد قد تنتابه مشاعر سلبية تجاه نفسه والحياة ككل، فيشعر بأنه صار سلبيا وبلا دور وهو ما قد يؤدي به إلى متاعب جسدية ونفسية وعلى رأسها الاكتئاب، ينصح بعدم الإحالة المباشرة للموظف على التقاعد، بل يتم بالتدريج، حيث يترك له مجال ولو كان بسيطا كالاستشارة أو تشجيعه على ممارسة نشاط ذي صلة أو مختلف، كما يجب العمل على مساعدة المتقاعدين على التكيف مع وضعيتهم الجديدة، وتشجيعهم على السفر والاستجمام والعبادة والرياضة والزراعة وتربية الحيوانات والاهتمام بها، وكذلك دور المرافقة للأحفاد، مؤكدا أن للأسر الممتدة أثرا إيجابيا يساعد على تخطي هذه المشكلة.