تجربة تربوية ناجحة قرأت عنها ... وأحببت أن أنقلها إليكم :
أنا معلم لغة عربية للصف الخامس الابتدائي في مدرسة ابتدائية ( في بغداد) ، ومع أن خبرتي ليست كافية غير أنني حاولت بناء وتقويم شخصيات بعض الأطفال الذين علمتهم، عن طريق إبراز الذات لكونها تفصيلًا مخفيًا لا يجرؤ أحد على إظهاره خوفًا من انكشاف العيوب التي هي محط سخط واستياء الآخرين.
الصراع بين المعلم والتلميذ:
إن المشكلة الحقيقية تكمن في عملية القمع التي تمارسها المدرسة على الأطفال من خلال حرصها على تحقيق الانضباط داخل المدرسة أو الصف وباستخدام أسلوب العقوبة المفرطة من قبل المعلمين وعدم وجود لغة مشتركة بين الأطفال والمدرسة... قد يبدو الدور الذي تمارسه المدرسة في مجتمعنا، في شكله الخارجي كأنه عملية تربوية، أما في الحقيقة فهو مسألة صراع بين (المدرسة/ المعلم) من جهة و(التلميذ/ الأسرة من جهة أخرى)... هذا الصراع يبدو واضحًا حينما تطلب الإدارة من المعلم الجديد أن يكون حازمًا من أول يوم له في الصف... ما يدفعه لأن يسعى لأكبر قدر ممكن للسيطرة على التلاميذ... التلاميذ من جهتهم يفهمون حقيقة هذا الصراع فيحاولون إبراز شكل التمرد وعدم الانصياع للمعلم .
هذا الصراع يتكرر يوميًا على مدار السنة الدراسية وعلى حد علمي ينتشر في أغلب مدارس البلد والسبب في ذلك هو الثقافة والعقلية الاجتماعية التي تحكم معظم الإطار التربوي وأيضًا ضعف المؤسسة التربوية من حيث استخدام الأساليب التربوية الحديثة وتطوير إمكانات المعلمين في التعامل الإنساني البناء وصنع جيل قادر على تحديد هويته من خلال الاختيار والقدرة على تبني المفاهيم والقيم التي تتناسب مع ذهنية ذلك الجيل...
تحييد سلطة المعلم
في سياق محاولة خاصة للتمرد على الأسلوب القمعي الذي يمارس ضد الأطفال طرأت لدي فكرة (إحياء الذات) وهي محاولة بسيطة لقلب موازين الصراع من خلال تحييد سلطة المعلم وإبراز سلطة التلميذ ومحاولة توظيف تلك السلطة لمصلحة التلميذ من خلال إعطائه دورًا حقيقيًا في البحث واكتشاف المعلومة. وكذلك إعطاؤه الحرية الكاملة في التعبير عن أفكاره وآرائه حتى وإن كانت معيبة ولا تتلاءم مع المتعارف عليه أو الدارج.
في يوم من الأيام كانت لي تجربة مميزة مع تلميذ اسمه (حسين زغير) وهو تلميذ في الصف الخامس الابتدائي راسب لسنة واحدة... وهو بصورة عامة طفل منطوي صامت ومتمرد... وجميع من في المدرسة من معلمين لا يعيرونه أي اهتمام لأنه تلميذ كسول.... لكن في أحد الاختبارات الشهرية لمادة قواعد اللغة العربية فوجئت وأنا أصحح أوراق التلاميذ بورقة امتحان (حسين زغير) التي كانت تحمل إجابة مثالية. في اليوم التالي وعند توزيع الأوراق فوجئ جميع زملائه من الطلبة، فمن غير المتوقع أن يحصل طالب كسول على درجة كاملة. كانت صدمة مفرحة ولذلك فكرت بأن أطلب من تلاميذ الصف أن يقفوا ويصفقوا تقديرًا لجهده والنتيجة التي حصل عليها... ثم قررت أن أعتبر ذلك اليوم هو يوم ولادة الطالب (حسين زغير) وفعلًا صنعنا له احتفالية ميلاد كاملة وكانت حقًا حفلة صغيرة وجميلة... المفاجأة أن حياة التلميذ (حسين) تحولت بشكل كبير من حياة تلميذ كسول غير مرغوب فيه إلى تلميذ نشيط ومجتهد وصاحب شخصية مميزة.
تكرار التجربة وإنضاجها:
اعتقادي بأن سبب التغير هو الاحتفال البسيط والاهتمام والمتابعة... دفعني لتكرار التجربة مع أغلب التلاميذ المهمشين إما بسبب سلوكهم أو بسبب مستواهم الدراسي المتدني وكانت النتائج متقاربة في إحداث نفس الأثر الجيد في شخصية الطفل هذا الأمر دفعني للتساؤل عن إمكانية التغيير أو البناء أو حتى تحفيز شخصية نائمة أو مهمشة.
لقد كان سبب هذا التهميش هو عدم وجود فرصة متاحة للتعبير وإعطاء حرية كافية للتلميذ داخل الصف وخارجه في إبراز وجوده وإخراج مواهبه وأفكاره فموضوع التعبير الحر عن الأفكار وهموم الأطفال مهمة صعبة جدًا والسبب في ذلك هو طبيعة التنشئة الاجتماعية التي تدفع بالفرد إلى عدم البوح والمكاشفة وإبداء الرأي فالأسرة تعتبر أن رأي الطفل واعتراضه نوع من سوء الأدب حيث لا يمكن للصغير التكلم أمام الكبير وتدخله يعد شكلًا من أشكال السفاهة غير المرغوب فيها من قبل المجتمع.
الصعوبة الحقيقية كانت في كسر حاجز الصمت ودفع الأطفال لإفراغ بواطنهم بشكل حقيقي وبدون تكلف الأمر الذي دفعني للتفكير باستغلال درس الإنشاء لدفع الطلبة نحو نوع من أنواع التعبير والمكاشفة وإبداء الرأي... فطلبت منهم أن يتحدثوا تحت عناوين منها (تحدث عن نفسك بصراحة، تحدث عن أخطائك، ماذا تحب وماذا تكره، تحدث عن الأشياء التي أحببتها ولم تحصل عليها). كانت تلك المواضيع تفتح في ذوات الأطفال مساحة أكبر من التعبير الصريح والصادق وتدريجيًا نجحت بدفعهم لتحطيم مسافة الخجل والخوف .