.........لماذا لا نحتكم إلى البحث العلمي في بلادنا؟
سليم قلالة
الشروق : 23-12-2016الارتباك الكبير الذي وقع فيه المجتمع الجزائري في المدة الأخيرة نتيجة تضارب المواقف تجاه مُكمِّل غذائي لمرضى السكري، بَيَّنَ بالفعل أننا في حاجة إلى تثمين مرجعيات علمية في بلادنا تكون لها الكلمة العليا في قطاعها، وهذا لن يتأتـى إلا إذا كانت لدينا رؤية معرفية شاملة ومستقبلية للبحث العلمي، ولمكانة ودور القائمين عليه.. فأي واقع نعيش؟ وما السبيل لتحقيق ذلك في السنوات القادمة؟
المتتبع عن كثب لواقع التعليم العالي في بلادنا يلاحظ أن هناك تضاربا في مجال الاهتمام بهذا القطاع بين الكمِّ والكيف، أي بين الهياكل والقوانين وعدد الباحثين (الكمّ) والنتائج المُحقَّقة في الميدان وما تركته من مصداقية لدى الرأي العام (الكيف). لم يتردَّد أيُّ وزير من وزراء التعليم العالي في الإعلان عن الاهتمام بقطاع البحث العلمي من الناحية الرسمية ومن ناحية القوانين والهياكل والهيئات، حتى بدا وكأننا نَملك ما يكفي من وكالات ومراكز ووحدات البحث، فضلا عن المخابر وفرق البحث التي هي الآن بالمئات وفي جميع التخصُّصات.
إلا أن زيادة الاهتمام هذه لم تنعكس على واقع البحث العلمي وعلى النتائج المُحقَّقة في الميدان، ناهيك عن تأثيرها المباشر أو غير المباشر في مجال التنمية الاقتصادية والتطوير الاجتماعي. ولا يوجد أكثر دلالة على ذلك من قلة ارتباط القطاع الاقتصادي بالجامعة وبخاصّة في مجال البحث العلمي والتطوير التكنولوجي إذا استثنينا استفادته من خبرة بعض الإطارات، أما المجتمع فهو منفصلٌ تماما عمَّا يجري في ما يُعرَف بمخابر العلوم الاجتماعية والانسانية، لا يدري إن كان لها وجودٌ أو تأثير، مما يجعلها لا تُشكِّل لديه أيَّ مرجعية ولا يُمكنه أن يلجأ إليها في حال حدوث "قلق" اجتماعي كالذي مرّ بنا مع المُكمِّل الغذائي، أو كذاك الذي كثيرا ما نعرفه نتيجة التحوُّلات المتسارعة التي نمرُّ بها.
هذا الواقع هو نتيجة غياب رؤية معرفية في المجتمع تُحدِّد بالضبط ما نريد من التعليم بشكل عام ومن البحث العلمي بشكل خاص، وتعرف كيف تجد الروابط المتينة بين هذا الرؤية المعرفية والواقع الذي نعيش كما هو شأن الدول المتقدِّمة معرفيا التي لا تترك أيَّ مجال من مجالاتها بعيدا عن الدراسة والتمحيص والنقد في مختبرات ومراكز بحث لا تتوقف عن العمل.
نحن نعيش واقعا مخالفا، نُدرِك أهمية الموضوع ولكننا لا نمتلك القدرة على إدخاله مجال الجدوى الاقتصادية والفعالية الاجتماعية. إذا استثنينا بعض النتائج الجزئية خاصة في مجال العلوم التطبيقية، فإن أغلب الجُهد الذي يُبذل في الاختصاصات العلمية الأخرى يبقى بلا فائدة عملية.
عندما نُقيِّم أداء وزارة التعليم العالي والبحث العلمي في هذا المجال نجد الجهدَ مبذولاً من ناحية توفير الأطر القانونية والهيئات، وفي بعض الأحيان الهياكل أيضا، إلا أن محتوى ما نقوم به يبقى بعيدا عن الواقع ولا يدلُّ على وجود خارطة طريق واضحة في هذا المجال؛ فلا العلوم الاجتماعية تعرف ما الذي ينبغي لها أن تُحقِّقه ولا العلوم التطبيقية.. الكل يشتغل ضمن اجتهادات فردية، مُركِّزا على الكمِّ والشكل أكثر من النوع، والكل يشتكي من قلة الإمكانيات وقلة الاهتمام بالعنصر البشري (الباحث نفسه) خاصة من حيث التمويل، والسبب أن هذا التمويل ذاته لا يجري إلا وفق حسابات لها علاقة بالإنفاق الإداري أو على الهياكل بعيدا عن الغاية الحقيقية من البحث أي التطوير الاقتصادي والاجتماعي. أبدا ما نُحاسب وكالات أو مراكزَ أو فرقاً أو مخابر بحث على ما حققته عمليا بقدر ما نُكرِّس كل جهدنا لمتابعتها إداريا وتوفير بعض أساسيات وشكليات العمل لها.
صحيحٌ أن هناك إشكالية كبيرة في بلادنا تتعلق بالطلب على البحث العلمي في كافة المجالات، إلا أنه على البحث العلمي ذاته أن يحلها. لماذا لا يعتمد صانع السياسة العامة أو المسؤول السياسي على الإطار البشري الوطني وعلى البحث العلمي عند رسم سياسته؟ ما الذي يجعل الشركات الوطنية أو الأجنبية -على قلتها- مُنفصلة عن هذا القطاع، وعند الحاجة تلجأ إلى الخبرة الأجنبية؟ هل حاولنا معرفة ما الذي تريده وما هي مشكلاتها الأساسية لكي نوجِّه بحثنا تجاهها؟ لا أعتقد ذلك.
القليل من البحث العلمي الذي يوجد في بلادنا هو اجتهاداتٌ فردية وليس سياسات عامة. أما كثيره فهو ينزع نحو الشكليات في البحث التي تُمكِّن بعض القائمين عليه من الاستفادة من جزءٍ من الريع الذي يُخصَّص له، في الغالب على شكل استفادة غير مباشرة تحت عنوان الزيارات "العلمية" إلى الخارج لحضور ملتقيات أو المشاركة في نشاطات داخلية ذات طبيعة غير مُنتجة، أو استهلاك للميزانية في بعض المشتريات المكتبية (حاسوبات، مكاتب، آليات، تأثيث... الخ). ولعل هذا ما جعلنا نبدو بلا بحث علمي رغم المشاريع الكثيرة والهيئات المتعددة.
يكفي أن نعرف أن لدينا أكثر من 29 مركزا للبحث العلمي على المستوى الوطني، 12 منها تابعة لوزارة التعليم العالي لها علاقة بكافة المجالات من الطاقات المتجدِّدة إلى التكنولوجيات المتقدِّمة إلى الكيمياء إلى العلوم الإسلامية والحضارة.. و11 غير تابعة للتعليم العالي وتتوزع هي الأخرى على كافة المجالات من دراسة ما قبل التاريخ والحركة الوطنية إلى الفلاحة والزلازل والعمارة، و4 مراكز تابعة لمحافظة الطاقة النووية بالعاصمة ودرارية والبيرين وتامنراست، ومركزان تابعان لوكالة الفضاء الجزائرية.
فضلا عن هذه المراكز، لدينا 5 وكالات موضوعاتية للبحث العلمي في البيوتكنولجية، وعلوم الزراعة والتغذية، وعلوم الطبيعة والحياة، والعلوم الاجتماعية بميادينها المختلفة.
أما وحدات البحث، فهناك المرتبطة بالجامعات والمدارس وعددها 13 في مختلف المجالات (العلوم العصبية، الطاقات المتجددة، الكيمياء، الصحة، البيئة... الخ)، وتلك المرتبِطة بالمؤسسات العمومية ذات الطبيعة العلمية والتكنولوجية وعددها 14 وهي الأخرى تتناول مواضيع مُتنوِّعة تتراوح من دراسة الطاقات المتجددة والتعدين والبيئة والبصريات إلى اللسانيات واللغة العربية والترجمة...).
وعند وصولنا إلى مستوى الكليات والمعاهد الجامعية، فإننا سنكون أمام عشرات المخابر العلمية ومئات فرق البحث في كافة التخصُّصات بمئات من الأساتذة والطلبة الباحثين، تشترك في بعض الخصائص ولكنها تختلف من حيث المردود والكفاءة من جامعةٍ إلى أخرى حسب نوعية العنصر البشري الذي يؤطرها.
وحتى القطاع الاقتصادي، فإن له هو الآخر مراكزَ بحثه التي تُسمَّى بمراكز البحث والتطوير، وتتبع لمجمَّعات اقتصادية مثل مجمع صناعة الإسمنت، ومجمع بن حمادي، وسيفيتال، وحسناوي، ومؤسسات ENIE للصناعات الالكترونية وENIEM للصناعات الكهرومنزلية وSNVI للعربات الصناعية... الخ.
كل هذه الهياكل والهيئات التي تُسمَّى بالبرامج الوطنية للبحث PNR، وكذلك ما يُعرف بفرق البحث المختلطة، وشبكات الباحثين إلى غيرها من التسميات... إنما هي في الواقع تتحرَّك بلا رؤية مستقبلية، لا تعرف ما الذي تفعل؟ وإلى أين ينبغي أن تَتَّجه؟ وعلى ماذا ينبغي أن تُركِّز؟ ويتجلى ذلك على الصعيد القاعدي في ترك الطالب الباحث محتارا فيما ينبغي أن يدرس، والأستاذ الباحث يخطط لنفسه، والفرق البحثية تجتهد بمفردها لتقدِّم ما تعتبره مساهمة منها في البحث العلمي.
وهكذا يضيع جهدٌ كبير، وتضيع طاقاتٌ وأموال، والأكثر من ذلك وقتٌ ثمين، ولا تتشكل لدينا مرجعية في المجتمع للبحث العلمي يمكنها أن تتدخل بثقلها في أيِّ نقاش أو موقف وطني إن مَسَّ الصحة العمومية كما حدث مع المُكمِّل الغذائي لمرضى السكري، أو مَسَّ السياسات الوطنية المختلِفة من الأمن الغذائي إلى الأمن الاستراتيجي الذي له علاقة بجميع أنواع الأمن... ولذا فإنَّ الدعوة اليوم منّْي ومن غيري تُصبح أكثر من مُلحَّة لإعادة نظر كليةٍ وشاملة لهذا القطاع.
************************
كل هذه الهياكل والهيئات التي تُسمَّى بالبرامج الوطنية للبحث PNR، وكذلك ما يُعرف بفرق البحث المختلطة، وشبكات الباحثين إلى غيرها من التسميات... إنما هي في الواقع تتحرَّك بلا رؤية مستقبلية، لا تعرف ما الذي تفعل؟ وإلى أين ينبغي أن تَتَّجه؟ وعلى ماذا ينبغي أن تُركِّز؟