.......
العربي التْبَسّي "الشهيد الذي لا قبر له"
الهدية 357
من يقرأ تاريخ الجزائر بتمعن يكتشف بأنها أرض للشهداء بامتياز، حيث ارتوت بدمائهم الطاهرة في سبيل التحرر والتمسك بالهوية الإسلامية العربية الأمازيغية.
فترة الاستعمار الفرنسي للجزائر التي دامت 132 سنة دفعت فيها الجزائر أنهاراً من الدماء فاقت 8 ملايين شهيد خلال تلك الفترة الطويلة، من بينهم أزيد من مليون ونصف المليون شهيد في ثورتها التحريرية المجيدة التي دامت 7 أعوام ونصف (1954 – 1962).
ومن بين أولئك الشهداء الذين تحدوا أعتى قوة استعمارية في القرن العشرين "الشيخ العربي التبسي" الذي استشهد بطريقة تعد من أبشع وأشنع الطرق التي عرفتها البشرية، والتي تفنن فيها الاستعمار الفرنسي على مدار تاريخه الاستعماري.
فرنسا الاستعمارية ومنذ احتلالها لأرض الجزائر سنة 1830 ركزت بشكل ممنهج على محاربة الجزائريين في هويتهم ودينهم، فجلبت معها آلاف المبشرين ودمرت مئات المساجد وحاولت إرغام الأهالي على اعتناق المسيحية، لكنها قوبلت منذ الوهلة الأولى بمقاومات شرسة صنعت ملاحم مشرفة تذكر إلى يومنا هذا.
وكان الشيخ العربي التبسي من بين الجزائريين الذين عاهدوا الله والوطن على حماية دين وهوية الجزائريين، وكان من علماء الجزائر الذين قل أمثالهم، ويُذكر في تاريخ الجزائر على أنه "الشهيد الذي لا قبر له".
من هو الشيخ العربي التبسي؟
اسمه الكامل "العربي بن بلقاسم بن مبارك التبسي" الذي تنحدر أصوله من قرية "أسطح" بولاية (محافظة) تبسة الواقعة شرق الجزائر على الحدود مع تونس، ولد عام 1895 من أسرة فقيرة تعمل بالزراعة على غرار غالبية العائلات الجزائرية في تلك الفترة.
حفظ القرآن الكريم كاملاً وهو في سن 18، وعاد الفضل في ذلك إلى والده الذي كان معلماً للقرآن الكريم في مسقط رأسه الذي غرس فيه حب تعاليم الإسلام.
بعد حفظه للقرآن الكريم انتقل الشيخ العربي التبسي إلى تونس عام 1910، حيث أتقن تجويد القرآن الكريم وتعلم مبادئ النحو والصرف والفقه والتوحيد، ليكمل مشواره الدراسي بتونس عام 1914 حين دخل إلى جامعة الزيتونة وحصل منها على شهادة الأهلية.
شغف شهيد الثورة الجزائرية بالدراسة جعله يتنقل بعد ذلك إلى جامع الأزهر في مصر عام 1920، ودرس بالأزهر العلوم الشرعية ونال منه الشهادة العلمية في العلوم الإسلامية، ليعود إلى بلاده عام 1927 محملاً بعلم وعشق لها، فكان بمثابة السلاح الذي يخشاه الاستعمار الفرنسي أكثر من الأسلحة النارية.
قاد الشيخ العربي التبسي نهضة تخليص الجزائريين من جهل حاول المستعمر دفنه في نفوس وعقول الجزائريين، وتنقل من مدينة جزائرية إلى أخرى متحدياً جنرالات الدم الفرنسيين، إلى أن جاء "يوم جنون الاستعمار".
كتب الله سبحانه وتعالى الشهادة للشيخ العربي تبسي في شهر رمضان، ففي 3 من رمضان عام 1376 هجري الموافق لـ 4 أبريل/نيسان 1957 اقتحمت منظمة الجيش السري الإرهابية التي شكلتها فرنسا لمساعدتها على قتل الجزائريين منزل الشيخ في العاصمة الجزائرية وقامت باختطافه.
قتل همجي
المعروف عن مصير قيادات الثورة التحريرية الجزائرية أنهم لا يخرجون إلا شهداء مقتولين من زنازين فرنسا، والمعروف عن فرنسا الاستعمارية "تلذذها وتفننها" في قتل الجزائريين سواء كانوا قيادات أو مناضلين في الثورة.
لكن، لم يتوقع أي أحد أن تصل درجة الحقد الفرنسية إلى ابتكار أحدث الطرق والدنيئة والهمجية في قتل إنسان بشكل لم تشهده البشرية حتى في عصر أعتى الطغاة، بقيت إلى يومنا هذا وصمة عار ملتصقة بفرنسا.
إذ أكدت شهادات تاريخية أنه بعد اختطاف الشيخ العربي التبسي تم اقتياده إلى مقر الحاكم الفرنسي الذي حاول إرغامه على التراجع عن دعم الثورة وإلا فإنه سيلقى أسوأ مصير يمكن أن يتعرض له ضحية في يد جلاد.
رفض الشيخ العربي التبسي الانصياع والرضوخ وبيع ثورة بلاده، فأمر الحاكم الفرنسي بقتل الشيخ بأبشع طريقة، فقام الجنود السنغاليون "بإدخال الشيخ عارياً في قِدر مملوء بزيت السيارات وممزوج بالأسفلت الذي كان يغلي تحت درجة حرارة كبيرة"، ورغم ذلك تمكن الشهيد العربي التبسي من نطق الشهادتين وكان ذلك في 17 أبريل/نيسان 1957، ليبقى قبره مجهولاً إلى يومنا هذا.
انتقلت روح الشهيد العربي التبسي إلى بارئها الأعلى، وتركت واحدة من أكبر وأهم الأدلة على همجية الاستعمار الفرنسي وعلى ماضيه غير المشرف، وعلى قصة كفاح جزائرية عربية مشرفة.
ومن بين المقالات التي كتبها الشهيد العربي التبسي في مجلة البصائر الجزائرية بعد اندلاع الثورة التحريرية الجزائرية، كانت بعنوان "كتاب الأدغال" ونشرها بتاريخ 18 فبراير/شباط 1955، قال فيها: "وتململوا وتحركوا، ودبّت فيهم روح الحياة الحرة الجامحة التي تحطم كل معترض مهما كان قويًا عاتيًا، وتقدموا إلى الأمام يخوضون معركة الحياة، وقد حملوا أرواحهم فوق أيديهم، فيزحفون إلى الأمام، ولا يتقهقرون أبدًا إلى خلف، وقد علموا أن حياة لا عزة ولا شرف ولا علم فيها ولا عمل ولا حكم فيها ولبنيها، ولا سلطان فيها لذويها، إنما هي حياة خسة ومذلة أفضل منها الموت العزيز والفناء الشريف".