.......
المدرسة ورهان التجاذبات ....هل يستقيم الظل والعود أعوج ؟
المصدر
موقع صوت سطيف
11-12-2016
د ، عبد الله صحراوي
لا تزال السياسة التربوية بالجزائر رهينة التجاذب المستمر بين قطبي الثنائية ( المجتمع ـ التربية ) ، ولا يزال الأمر غير مستقر إزاء السؤال القديم المتجدد ، من يصنع الآخر ؟... شبيها بجدلية البيضة والدجاجة أيهما أسبق ، وبرغم استقرار الموقف بالانتصار للرأي القائل بوجوب صنع المجتمع لتربيته التي تسند وجوده وتدعم قواعده بما يطابق قول التربوي الشهير Roget Gall " إنه لأمر واقع أن كل نظام تربوي إنما وضع ليوافق نظاما اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا ودينيا وليوافق ضربا من ضروب الوضع البشري ، إنه مصنوع ليستجيب لحاجات المجتمع وأفكاره وأعرافه وتقاليده ....." ، لا يزال راسموا السياسة التربوية ومنفذوها يبتعدون عن الحسم الجاد في امر النظام التربوي ، بتغريدهم المستمر خارج السرب وتشكيكهم المتواصل في الثوابت وخرقهم الفاضح أحيانا للخطوط الحمر فيها ، في تمايز غريب عن غالبية المجتمع وأكثريته الساحقة ، ...يرهنون خياراته التربوية بتجاذبات تغدو وتروح جيئة وذهابا بين الثوابت والمتغيرات لا تقف على مستقر إلا لتعاود الترحال ، محملة في غدوها ورواحها بتناقضات صارخة بين المعلن والخفي والمسطر والميداني ، بحيث لا يكاد امر اصلاح يستقر حتى يلحق به الآخر ،تتوالى الاصلاحات وتتغير بتغير المسؤولين وصناع القرار والمنفذين ، وتقلبهم بين الأمزجة والأهواء ، ليضيع الإصلاح في فوضى الإصلاحات ، ويصعب على العقلاء معرفة الغث من السمين بفعل تسارع الأحداث وتوالي المستجدات.
وبفعل الأمراض المزمنة التي لازمت منظومتنا التربوية منذ بداية العشرية السوداء ، مفرخة مدرسة أعوج عودها فأعوج باعوجاجه ظلها...صارت المهازل المستمرة بالنظام التعليمي شغل الناس الشاغل وموضوع الحديث الدائم واليكم الحكاية من البداية .
لا يمكن لأي نظام تعليمي مهما كانت فلسفته وأدواته ووسائله أن ينجح في تحقيق غاياته ويصل برسالته لمبتغاها وبأهدافه لنهايتها ،في تكوين جيل المعرفة المتعلم الذي يأخذ على عاتقه امر تنمية المجتمع اخذ المقتدر ،ويدير عجلتها تدوير المتمكن ،ما لم يتحقق لمدرستها استقرارا يبعدها عن التجاذبات والنزاعات ، ويبعد عنها شبح التجارب والتجارب المعادة جيلا بعد جيل ،وما لم يستقر الأمر برؤسائها ومرؤوسيها على التآزر التام ، والتوافق العام حول الخيارات والوسائل والممارسات ،مبتعدين ( رؤساء ومستخدمين ) عن الصراع حولها ، والفتنة المغيبة لفعل التعليم والتعلم بساحتها ، المرتهنة لمصالح المتعلمين ...والمدرسة الجزائرية ومنذ عقودها الثلاثة الأخيرة تعيش أزمة وجود حمالة لأوجه وجوانب متعددة،زادتها احداث الإصلاح الأخير أزمة لأزمتها المزمنة ، ودفعت بالتجاذبات من حولها و التموقع إزاء الخيارات نحو الحدود القصوى ، بحيث لا يمكن لأي جهد مهما بلغ مستواه ان يحقق أهدافها المرسومة في تنشئة جيل المعرفة وهي بهذا الوضع عن ذلك أقصر .
لقد أبانت الأحداث الأخيرة بالساحة الخلفية للمدرسة منذ فضيحة البكالوريا ، والإعلان المفاجئ عن البدء بتطبيق ما اصطلح على تسميته بمناهج الجيل الثاني G2، وما اعقب ذلك من فضائح في المحتويات والبرامج والكتب الدراسية مست احيانا ثوابتها لا متغيراتها ثم لاحقا اضراب طلبة النهائي بعد الاعلان عن تغييرات في البكالوريا مست الشكل أساسا لا الجوهر ، عن فتنة قائمة لا يمكن اغفالها ،سارع القائمون على أمر المدرسة لإطفاء حرائقها ،بمحاولة إفراغ الساحة من العسكر القديم ( أساتذة ومعلمين ) بالتسريح المسبق (استثناء) ، بعد ان ثبت اصرارهم على لعب دور الحارس الوفي ،والشوكة المؤلمة في كعب المسؤولين المستعجلين لوضع ( رؤاهم ) الإصلاحية موضع التنفيذ ، من دون اعتبار لمعارضة أو تأييد ، وبعد أن ثبت بالجرم المشهود اصرارهم على الوقوف حجر عثرة امام ما يحاك لها بسبق الاصرار والترصد مرات وبالجهل أخرى من تغريب أو تحوير للفلسفة والرسالة والأهداف....
لقد رافق حدث التسريح ( الإحالة على التقاعد المسبق ) للعسكر القديم دخان الفتنة الذي لا ينقطع بإطلاق الشائعات والشائعات المضادة ، مدخلة الغلابى من المعلمين والأساتذة نفقا مظلما سارع فيه الكل نحو سراب المنافذ بغية الخلاص من الفوضى ( الخلاقة ) التى أبدع صانعوها في نسج خيوطها ... فتدخل المدرسة نفقها المظلم من جديد وتمر مجددا بواحدة من اصعب فتراتها تسبح في ظلام الفتنة المصطنعة بين عناصرها ( من معلمين وموظفين ومسئولين و راسمي سياسات ) ، لينشغل الجميع بلملمة اوراقه ، وحزم حقائبه مستعجلا الرحيل غير آسف عليه ، نائيا بنفسه عن ساحة حرب العصرنة والتأصيل التي ظلت رحاها دائرة بساحة المدرسة تأكل اخضرها ،لا تتوقف إلا لتدور أسرع بين ادعياء العصرنة وحراس التأصيل ،والتي يبدوا انها انتهت اخيرا باستسلام الطرف الثاني وتسليمه بأن " للكعبة رب يحميها " .
لقد كانت منذ عهد قريب اصلاحات الجيل الأول ومقاربة الكفاءات لعنة على المدرسة طاردت أصحابها إلى اليوم ،فلا الكفاءات تحققت ولا المعنيون بها استوعبوها ولا هم تمثلوها ، واستمر جيل تجربة الكفاءات في سقوطه الحر ينادي بتقليص البرامج ، ويطالب بالعتبة بعد العتبة دليلا صارخا على التردي المستمر في التخطيط والأداء ، ملحقا بسوق الرداءة والبطالة اجيالا من أشباه المتعلمين يعمرون مقاعد الجامعات كالخشب المسندة ، او يلقى بهم في الشوارع يسندون الجدران ويعمرون المقاهي من دون ذكر للكفاءات ، إلا ما كان من تقاعس عن العمل المنتج للثروة ، وبعد عن الأخلاق الحميدة ، وفراغ نفسي رهيب ، يأسرهم الحنين للهجرة ، ويحلوا لهم الانجذاب للتقليد الأعمى لكل غريب في الملبس والمظهر والسلوك ، تفتقر شخصياتهم لكل ما يمت بصلة للمواطنة بشكل من الأشكال .
لم يكد سواد الظلمة التي أدخلت المدرسة فيها بفعل اصلاحات الجيل الأول ينجلي ، حتى اشتد سوادها من جديد تحت وطأة اصلاحات الجيل الثاني ، وسياسات الاصلاح الذي لم يجب بعد عن اشكالات اخفاق الجيل الأول ، وعن الوسائل والادوات والإجراءات التي ينبغي أن تتخذ لنجاح المسعى ، ليبدوا الموضوع وكأنه تدبير ليل يؤمر بتنفيذه صبحا من دون روية ، وتدخل المدرسة سلسلة الحروب والصراعات التي تمزقها ، بكشف الحرس القديم لسوءات الإصلاحات ورفضهم التزييف والارتجال في التخطيط والتنفيذ بساحتهم ، بدءا بكشف عورات البرامج ومغالطات الكتب التي بدت وكأنها تمس اللب والجوهر غير مكتفية بالقشرة والمظهر....فلا القائمون على المدرسة وقد استنفذت اوراقهم في المجابهة وأعياهم أمر الممانعة ، وهم على عجلة من موضوع التنفيذ إلا فتح باب التسريح المسبق ـ استثناء ـ في محاولة للتخلص من اوجاع الرأس...فيسارع المقهورون منهم لأخذ الموقع في الطابور حتى وصل عدد المعبرين عن الرغبة في "المرواح" والكف عن " الصياح " حدود 50 الف " في ظرف قصير ، وهو رقم رهيب إذا ما أضيف له العجز المسجل في تغطية المناصب الشاغرة أصلا بالمدارس على اختلاف مستوياتها ـ ابتدائيات ـ متوسطات ـ ثانويات .
والسؤال الذي يعجز العاقل عن ايجاد اجابة له ، من اين للوزيرة بن غبريط ولو استعانت حتى بالعفاريت ، ان تعوض هذا الجيش الجرار من المسرحين من ذوي الخبرة والكفاءات ؟ ، كيف للمدرسة المغلوبة أن تعالج هذا النزيف الهائل في موظفيها و مستخدميها وإدارييها ومعلميها وأساتذتها ؟، كيف لبنيانها المهلهل اصلا ان يتراص بعد هذا الزلزال المدمر ؟، و الذي سيعود بالمدرسة لأيام الاستقلال الأولى وجيوش المعمرين يغادرونها تاركين إياها خاوية على عروشها تستنجد بكل حامل قلم بغض النظر عن مستواه ( مع تقديرنا لذلك الجيل من الرعيل الأول وتقديرنا لحملهم الأمانة باقتدار وتفانيهم في العطاء قدر المستطاع ) ،...بهذه الصورة تستيقظ الفتنة من جديد من حول المدرسة وتشتعل نارها بساحتها ، فلا يتفق أصحابها إلا على اختلافهم ، لتضيع مصالح الأبناء ويرهن مستقبلهم ، فتزدهر تجارة المدرسة الموازية ـ خاصة وخصوصية ـ بفعل مبيت مقصود ، يدمر ما بقي من أعمدة النظام التعليمي الرسمي ، الذي اتفق على ان لا يختار لتسييره في ظل السياسات المرسومة إلا من يكره الناس على قبول خياراته وفلسفاته ، والحال ان نظاما تربويا وتعليميا لا ينموا ولا يزدهر إلا في ظل خيارات مجتمعية سليمة نابعة من نقاش عام ثري يسهم فيه الخبراء والفاعلون بالمدرسة الاسهام الأوفى ، يحملون بعده مسؤولياتهم تجاه الناشئة بجد ، ويحملهم المجتمع ذلك بالحق لا بالباطل ، اما والأمر غير ذلك فإن آخر ما يفكر فيه العاملون بالمدرسة وفي نطاقها هو مصلحة التلميذ ، و ما دامت الأهواء الشخصية والنزعات الفردية والرؤى الليلية هي المتحكمة في رسم السياسات وتخطيط الاصلاحات على قاعدة " ما أريكم إلا ما أرى " ،فإن المصلحة الشخصية ستظل الدافع الأقوى لدى الطرف الآخر على قاعدة " لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة " .
ولأن تسريح الحرس القديم للمدرسة لا يكفي لشفاء غليل من ظلوا يجابهونهم ويقفون في وجه اصلاحاتهم ، فإن قض المضاجع بالشائعات وهم على وشك الرحيل هو التكريم الأنسب لهم ، ولكون المعلمين الغلابى هم مصدر الازمة الاقتصادية الخانقة ،وسبب فقدان البحبوبة المالية المريحة ، باستنزافهم لبيت المال على كثرتهم (وارتفاع) مرتباتهم ، فإنه لا غنى عن اطلاق الاشاعة وقد تم استقبال ملفات التسريح بل (والتصديق عليها ربما) ، بأن أذى محتوما سيصيب مرتباتهم ، وان ما كسبوه بصراعهم المرير سيتم اقتطاعه منها فلا منحة "مردودية" في مرتبات التقاعد بعد اليوم ، من دون توضيح ما إذا كانت الاشاعة لا تستثني المناصب العليا ممن يحتفظون في تقاعدهم بكامل مرتباتهم ( الزهيدة) ...وببراءة المحايد نتساءل : هل تجابه الأزمة بإفقار الناس والعمل بأيسر الحلول وأسهلها على ظلمها ؟ ، وهل يصلح التقشف بإثقال كاهل الغلابى بالضرائب والاقتطاعات ؟ في ظل الحكم الرشيد...!!!!!، أما كان الأجدر أن تعالج أزمة بيت المال بسد الثقوب والفتحات المسربة للمال العام ،الذي جعلت منه ايدي المختلسين والسارقين والمبتزين واللاعقين واللاحسين شبكة ثقوب تصل بالأنابيب جيوبهم في السر والعلن .
النار بساحة المدرسة مشتعلة والفتنة بجوارها قائمة ورسالتها معطلة ، وإلى أن يستقيم عودها سيبقى الظل أعوجا .
د ، عبد الله صحراوي